چاويار نيوز – كتبت الصحفية والأكاديمية العراقية المهتمة بالقضايا الحقوقية والمجتمعية حنان سالم، في مقال نُشر يوم الجمعة، في الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج”، أنه: قبل خمس سنوات من الآن، كان نهر قلياسان، أحد روافد الزاب الصغير، يلفظ أنفاسه الصيفية الأخيرة، إذْ بدأت مياهُه بالانحسار شيئاً فشيئاً، حتى بات لا يختلف عن ضفافه في الصيف، وينتظر، كأغلب مزارعي العراق، أن يأتي فصل الشتاء بغيوم غزيرة تروى السليمانية، المدينة التي يمرّ بها.
خلال العقود الأربعة الماضية، أنشأت إيران أكثر من 20 مشروعاً مائياً على أنهار مشتركة مع العراق، كالزاب الصغير، وسيروان، وجُفّت بعض الأنهار مثل كنغير وكنجان جم بالكامل، وجميعها تمر بمحافظة السليمانية (حوالي 370 كم شمال بغداد)، وقُطع حوالي 45 نهراً ورافداً يصب في العراق عام 2011، وتحدّث حينها مسؤولون عن نيتها قطع جميع المجاري المائية التي تتّجه إلى الأراضي العراقية.
أمّا تركيا، التي تنبع من أراضيها النسبة الأكبر من مياه العراق، فقد خفّضت 40 بالمئة من التدفق المائي للعراق، بسبب مشروعها GAP الذي يهدف إلى الريّ وتوليد الطاقة، ويشمل 22 سدّاً، أبرزها سد إليسو، الذي شُيِّدَ على نهر دجلة، ويتسبب في نقص كبير في تدفّقات نهر دجلة الذاهب إلى العراق والذي يمرّ بإقليم كوردستان، إضافةً الى 19 محطة طاقة.
الأمطار تشحّ
جبال كوردستان بدَت أقلّ خضرةً صيف هذا العام، ساعد على ذلك التراجعُ الحاد في معدّلات هطول الأمطار، وهو الأسوأ منذ عقدَين، إذْ سجل الشتاء الأخير هطول 220 ملم من الأمطار فقط، بينما سجلت السنوات السابقة هطول 600 ملم، أي أقل بـ 63 بالمئة من المعدل القياسي الموسمي، ما أدى إلى فشل الزراعة الشتوية وتقليص الزراعة الصيفية.
وبينما يعتقد البعض أن السبيل لأمنٍ مائي يمرّ بتشييد سدود كبيرة، تراجع مخزون أبرز سدّين في إقليم كوردستان العراق، دوكان ودربندخان، بنسبة 30 بالمئة و50 بالمئة على التوالي، ما أدّى إلى انخفاض حصة الفرد من المياه في الإقليم إلى 600 متر مكعب مقارنةً بـ 1000 متر مكعب وفق المقياس العالمي، وستتناقص إلى نصف ما هي عليه الآن ما إن يحلّ عام 2035.
تتفاقم الأزمة في الكثير من الأحياء السكنية داخل المدن، خزانات بيع مياه الآبار تجوب الشوارع، فقد ينفذ خزان أي عائلة قبل وصول مياه الإسالة (المياه المفلترة والصالحة للاستخدام المنزلي)، تلك التي لا يتعدى وصلها ساعتين كل ثلاثة أيام في الكثير من المناطق، إضافةً إلى أن العديد من المجمعات السكنية لم يتسنَّ لشبكة مياه الإسالة الوصول إليها، ويعتمد سكانها على شراء المياه اعتماداً كاملاً.
وهم الأمن المائي
لم يحمِ الموقع الجغرافي وطبيعة التضاريس إقليم كوردستان من تأثيرات التغير المناخي، فالمياه السطحية تتحكم بها جارتان متشابهتان في السلوك المائي تجاه العراق. أما المياه الجوفية التي يعتمد عليها أغلب الفلاحين فقد تناقص منسوبها أكثر من 80 بالمئة في بعض المناطق.
ويضم إقليم كوردستان ما يصل إلى 50 ألف بئر تُستخدَم لأغراض الري والاستخدام المنزلي، أكثر من نصفها غير قانوني. ما يشير إلى اعتماد متزايد على المياه الجوفية، لكن الكثير من هذه الآبار جفّ، خصوصاً في محافظة دهوك (478 كم شمال بغداد)، فقد انخفضت مستويات المياه الجوفية إلى 40 متراً. وتعكس هذه الأرقام حجم الضغط واستنزاف المياه الجوفية بالتوازي مع النمو السكاني المتزايد، إذ تجاوز عدد سكان الإقليم ستة ملايين نسمة.
صحيح أن محافظات الإقليم تقع في بداية المجرى النهري، لكن حوالي 60 بالمئة من مواردها المائية يعتمد على إيران وتركيا، فجميع الروافد تنبع من خارج العراق، ومع غياب اتفاقيات ملزمة للجارتين اللتين تحكمان هذه الروافد، فإن العراق لا يملك سيادة على الأنهار والشرايين المائية الحيوية التي تجري على أرضه، ولا يسيطر على مصيره المائي.
من جهة أخرى فإن الطبيعة الجبلية لإقليم كوردستان، التي من المفترض أن تساهم في تخرين المياه، باتت عبئاً في ظل غياب مشاريع حصاد المياه وإنشاء السدود الصغيرة التي تلائم تلك التضاريس، لذا فعندما تشحّ الأمطار لا يجد الإقليم آليات يعوض بها النقص المائي.
كل ذلك يعني أنَّ الموقع في بداية المجرى النهري والطبيعة المناخية وما يُخزّن خلف السدود لا يعني بالضرورة تحقيق أمن مائي، وكبقيّة مناطق البلاد، للإقليم نصيب من الضرر المائي الناتج عن السياسات العابرة للحدود وما يُبرم في القاعات المغلقة بين طهران وأنقرة وبغداد.
الحل بيد من؟
يغيب ممثلو الإقليم عن الاتفاقات المائية التي تبرمها بغداد مع الدول الأخرى، فالدستور يضع في مواد عدة، منها المادة 110، صلاحيات إبرام الاتفاقيات الدولية بيد الحكومة الاتحادية، لذا لا ترى بغداد ضرورة لإشراك أربيل فيها باعتبارها قضايا سيادة وطنية.
الاتفاق الأخير بين بغداد وأنقرة في مايو الماضي مثلاً، جاء في لحظة عطش شديد ضرب الجنوب العراقي، ونصّ على إطلاق 500 متر مكعب في الثانية من مياه نهر الفرات يومياً، دون ذكر شيء عن نهر دجلة الذي يغذي هو وروافده محافظات الإقليم، عدا عن بناء السدود على تلك الروافد دون وجود آلية دولية تلزم تركيا وإيران بالتنسيق مع أربيل أو العراق كلّه.
ورغم بروز الجفاف بوصفه مشكلة خاضعة لسياسات خارجة عن يد العراق والإقليم، إلّا أن جزءاً من المعركة يتطلب خوضه داخلياً بأدوات تقنية وهندسية متاحة لكنها مؤجلة. فكوردستان لديها، من حيث المبدأ، الإمكانات الطبيعية والبشرية الكافية لتخفيف وطأة أزمة المياه لو فُعِّلت بالطريقة الصحيحة، لكنّ التفكيرَ في التغيُّر المناخي لا يحظى باهتمام قرارات إدارة الإقليم في الوقت الراهن.
في جامعات إقليم كوردستان العراق التقنية، هنالك أقسام لدراسة الموارد المائية، وهي مستمرة في إنتاج البحوث العلمية، لكنّ مخرجاتها بلا أثر ملموس، وارتباطَها بمراكز صنع القرار ما زال ضعيفاً، والتنسيق لابتكار الحلول – كشبكة ذكية لتوزيع المياه واستهلاكها أو إطلاق نظم مراقبة مبكّرة للجفاف بغية مواجهة الأزمة – ما زال غائباً.
وفي ظل خلافات سياسية بين الحزبين الحاكمين في إقليم كوردستان (الاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي الكوردستانيَّين)، وعدم تشكيل حكومة حتى بعد ثمانية أشهر من الانتخابات البرلمانية للإقليم، تظل مشاريع حصاد المياه وحفر خزانات سطحية لجمع الأمطار، وإن شحّت، غائبة رغم ضرورتها من أجل تضاريس القرى الحدودية.
قرى تذبل بصمت خلف الجبال
يمنح الدستور العراقي صلاحيات واسعة لإقليم كوردستان، لكنّه يحصر أموراً عدة، مثل إدارة المياه، ضمن الصلاحيات الاتحادية، ما يضفي غموضاً على الجهة التي تتحمل المسؤولية المباشرة للأمن المائي في الإقليم، وساعد غياب مشاريع الري والبزل، التي تحتاج إلى تمويل، في حدوث هجرة داخلية وخارجية لسكّان قرىً عدة، حتى أصبحت قرى في سوران، وقرى أخرى في قلعة دزة شبه مهجورة تقف على حافة العطش.
لم تعد الزراعة في هذه القرى تؤتي أُكلها في ظل شُحّ المياه، ونقص البنى التحتية، وضعف الطلب، وعدم تنظيم استيراد المحاصيل الزراعية، رغم وجود وزارة زراعة في حكومة الإقليم، وساعد على ذلك ضعف التنسيق مع وزارة الزراعة في بغداد، أو خضوع العلاقة بين وزارتي الإقليم والمركز للصراعات السياسية.
ولكون هذه القرى الصغيرة بعيدة عن مراكز المدن، لا تصل إليها شبكات المياه الحديثة، ولا تغذّيها السدود، فقد اعتمدت لعقود على ينابيع جبلية وجداول من الأنهار الحدودية. لكنْ، منذ عامين، بدأ كلُّ شيء يتغير بسرعة، فاضطُر بعضُ الناس إلى شراء الماء من البلدات القريبة، وهاجر أو نزح بعضهم الآخر.
لا تُدرَج هذه القرى في قائمة الأزمات لبعدِها عن مراكز القرار، لكنّها تمثل خطّاً أول في مواجهة الجفاف المنتشر في جسد الإقليم والدولة. إن ما وصل بالقرى الحدودية إلى عطشٍ أفرغَها من المياه والسكّان هو اعتمادُها على الجداول والأمطار دون ربطِها بشبكات المياه الرئيسة، فبات ضعف البنى التحتية، وغياب ربط المناطق الحدودية بالنظام المركزي للمياه حائلاً دون البقاء في هذه القرى أو استمرار الزراعة فيها.
ومع شبح الجفاف، يلاحق هذه القرى من ناحية أخرى شبح التوسّع العمراني، إذ بدأ الخط الفاصل بين الريف والمدينة بالتلاشي. وفي ظل غياب سياسات صارمة لحماية الأراضي الزراعية، يبدو أن ما تفقده القرى لا يعود إلى المناخ والسياسة وحدَهما، حيث يساهم التمدّدُ العشوائي، الذي لا يعترف بحق الريف بالبقاء، في انحسار الأراضي الزراعية، وخلال العقود الثلاثة الماضية فقدت كوردستان أكثر من 50 بالمئة من ريفها وتضاعفت مساحات المدن.
تغيب هذه الحكايات عن البيانات الحكومية، ومفاوضات الأطراف، ولن تبقى ذاكرة ريفية في مناطق هورامان في السليمانية، وكويسنجق في أربيل بعد أعوام قليلة من الآن، فالجفاف تحول إلى نزوح صامت نحو هوامش المدن، وما نعرفه الآن أن العطش لن يتوقف عند هذا الحدّ.
الكارثة تطرق الأبواب
يصنف العراق ضمن الدول الخمس الأكثر مواجهة للإجهاد المائي بحلول 2040، وهو ما يشمل إقليم كوردستان كذلك، إذ تراجع إنفاق أكثر من 40 بالمئة من الأسر في الإقليم على الغذاء بسبب الجفاف، وفقاً للمفوضية النرويجية للاجئين، التي أكدت على أن غياب استراتيجية وطنية موحدة لإدارة المياه في العراق سيجعله يفتقر إلى حصة عادلة من المياه.
لم تعد هذه التحذيرات الدولية تقديرات بعيدة، بل تتقاطع مع مؤشرات حالية في كوردستان، لذا أطلقت حكومة الإقليم مبادرات عدة للتكيف مع التغير المناخي، ففي العام الماضي أُنشئت ستة سدود صغيرة، إضافة إلى سد كوماسبان، وهو سد قيد الإنشاء في أربيل، يهدف إلى تغطية 16 ألف متر مربع من الأراضي الزراعية، وحجز 115 مليون متر مكعب من المياه.
لكن جدوى هذه المشاريع ليست ملموسة حتى الآن، ولا يبدو أن أثرها سيكون كبيراً قياساً بأثر نقص المياه. كما أن مشاريع أخرى ظلت حبراً على ورق، كسد بوانور في السليمانية، الذي يهدف إلى توليد الطاقة والتحكم بالفيضانات، وسد ديرالوك في دهوك.
يحاصر العطشُ أنهار كوردستان وينابيعها، لكنّ الجفافَ يتجاوز كونه مشكلة منطقة محددة في العراق، حتى أن وزير الموارد المائية اعتبر الأزمة المائية التي تضرب البلاد الأزمة “الأسوأ”، وفي وسط وجنوب العراق يبدو المشهد مأساوياً أيضاً، فلم يتمكّن سوى 20 بالمئة من المزارعين في 2018 من الوصول إلى المياه مقارنة بـ 65 بالمئة منهم في 2014، والنسبة في تناقص منذ ذلك الحين.
وتبرز بين الحين والآخر مشكلة ملوحة المياه في البصرة (530 كم جنوب بغداد)، المحافظة التي تسند باقي المحافظات بنفطها، إضافة إلى خروج ساكني أرياف الكثير من المحافظات، منها واسط وبابل، في مظاهرات بسبب الانقطاع شبه الدائم للمياه دون حلّ يُذكر، ما يشير إلى أن أزمة المياه في العراق وعطش أنهاره قضية وطنية تتطلب خطّة طوارئ تُنجِد محافظاته وإقليمه من الكارثة.
No Comment! Be the first one.