چاويار نيوز – كتبت وحدة الدراسات العراقية بمركز الإمارات للسياسات (EPC)، في مقال نُشر يوم الإثنين، على موقع المركز الإلكتروني، أنه: يشهد إقليمُ كوردستان العراق تحولاتٍ سياسية وأمنية متسارعة، تتداخل فيها الأزمات الداخلية مع المتغيرات الإقليمية، حيث يسعى الحزبان الرئيسان في الإقليم، الاتحاد الوطني الكوردستاني بزعامة بافل طالباني في السليمانية، والحزب الديمقراطي الكوردستاني بزعامة مسعود بارزاني في أربيل، إلى إعادة ضبط قواعد الصراع بينهما، وتأمين مناطق النفوذ وإخماد التحديات الداخلية، على غرار حملة اعتقال الاتحاد الوطني لعدد من قيادات الأحزاب المعارضة أخيراً وسط تصعيد أمني غير مسبوق، وبما يفتح الباب لتعدد القراءات حول انعكاس هذه التطورات على تماسُك الإقليم داخلياً، خصوصاً على مستوى إعادة إنتاج صيغة الحكم الداخلي بين الحزبين الرئيسين بعد أفول دور المعارضة، بالإضافة إلى ما يواجه الإقليم من استحقاقات متشابكة، مثل التصعيد الإيراني-الإسرائيلي، والانتخابات النيابية العراقية ومستقبل العلاقة مع بغداد، وتحديات التسوية التركية-الكوردية، ومصير الكورد في سوريا.
السليمانية: حملة أمنية لتعزيز سيطرة الاتحاد الوطني
تحولت السليمانية، التي تعد العاصمة الثقافية للإقليم وحاضنةً للتعدد السياسي، إلى مسرح لمتغيرات بارزة، تجسَّدت في حدوث حملة اعتقالات مثيرة شملت رموزاً معارضةً. البداية كانت مع اعتقال شاسوار عبد الواحد، زعيم حراك الجيل الجديد، أكبر أحزاب المعارضة حالياً (9 مقاعد في مجلس النواب، و15 مقعداً في برلمان كوردستان)، استناداً إلى ملفات قضائية قديمة، ثم تبعتها حملة أعنف ضد لاهور شيخ جنكي، الخصم اللدود لزعيم الاتحاد الوطني الكوردستاني بافل طالباني، وزعيم حزب جبهة الشعب. والاتهامات الموجهة إلى لاهور ما اقتصرت على السعي لاستخدام الاحتجاجات السلمية للانقلاب على ابن عمه في قيادة الحزب، بل شملت توجيه اتهامات مباشرة بالتسبب في مقتل عناصر أمنية أثناء المواجهات الدامية التي دارت في معقله وسط السليمانية ليلة 22 آب/ أغسطس 2025.
هذه الاعتقالات، التي استندت إلى مسوغات قضائية وأمنية معاً، كشفت بوضوح أن الاتحاد الوطني يسعى لإعادة ترتيب أوراقه من أجل إحكام قبضته على مدينة السليمانية، سواء من الناحية الأمنية أو السياسية. فعلى المستوى الأمني، يسعى الاتحاد للسيطرة على معارضيه والمنشقين عنه، وبخاصة بعد اعتراف لاهور شيخ جنكي، الرئيس المشترك السابق للاتحاد الوطني مناصفةً مع بافل طالباني قبل إقصائه عام 2021، بامتلاكه ما وصفها بـ”ميليشيا” على غرار قوى أخرى، في إطار منطق “القوة تُقابَل بالقوة”. وعلى الصعيد السياسي، تأتي هذه الخطوة لتقليص نفوذ المعارضة استعداداً لاستحقاق الانتخابات البرلمانية العراقية في نوفمبر المقبل، بما يعكس حرص بافل طالباني على تأمين موقعه على رأس حزبه وتثبيت سلطة الحزب في الإقليم قبل أي تغيرات محتملة.
وما يُعزز جدية هذه الخطوة هو الحديث المكثَّف في الكواليس السياسية حول مخاوف داخل حزب الاتحاد، إضافة إلى تسريبات من جهات إقليمية تشير إلى وجود مخططات لدى خصومه، المتمثلين بقادة سابقين تم إقصاؤهم أو تحجيم دورهم، لاستغلال أي اضطرابات محتملة قد تنشأ عن التصعيد الإيراني-الإسرائيلي أو عبر موجة احتجاجات موظفي الرواتب، لتغيير خريطة القيادة داخل الحزب.
ويؤكد هذه الفرضية، طبقاً لأوساط الحزب نفسه ووسائل الإعلام المقربة منه، منشور مفاجئ للاهور شيخ جنكي، ليلة قصف منشأة فوردو الإيرانية، كتب فيه باللغة الكوردية “انتهى دورهم والمفاجأة قريبة”، في إشارة إلى الاتحاد الوطني القريب من إيران، قبل أن يُحذَف المنشور ويُعطَّل الحساب لبعض الوقت. كما تبرز الجدية أيضاً من الأحداث التي رافقت اقتحام مقر لاهور شيخ جنكي، حيث عُثر على أسلحة، إضافة إلى اكتشاف -وفق مصادر الحزب- جثث عناصر أمنية قتلى تابعين لقيادي أمني منشق عن الاتحاد يقيم في أربيل، وقد تولّى حراسة مقر شيخ جنكي ضمن ما يفسَّر بأنه تحالف يضم المتضررين من سياسات بافل طالباني والساعين للعودة إلى واجهة الاتحاد الوطني.
وتشير تحليلات وتسريبات إلى أن الإطار التنسيقي الشيعي الحاكم في بغداد قد يكون داعماً لخطوات بافل طالباني في تحجيم خصومه، سواء عبر زج شاسوار عبد الواحد في السجن لقضاء فترة محكومية تمتد لستة أشهر على الأقل، أو عن طريق التعامل الأمني الدامي مع لاهور شيخ جنكي وأتباعه، عبر الصمت على هذه التحركات وعدم التعليق على الأحداث.
وفيما يجري في الكواليس الحديث عن وجود تسهيلات ودعم إيراني لعمليات ترتيب الأوضاع في السليمانية، إلا أن مصادر مطلعة أخرى تشير إلى أن مصالح الولايات المتحدة التي تشرع في الانسحاب من قواعدها في العراق إلى قاعدة حرير في إقليم كوردستان تتوافق مع الحاجة إلى وجود قيادة قوية في السليمانية، وعدم الانشغال بالانقسامات الداخلية في هذا الظرف الحساس. ويمكن الإشارة إلى امتناع معظم الممثليات الغربية عن إبداء مواقف أو تصريحات تدعم موقف لاهور شيخ جنكي أو شاسوار عبدالواحد، على رغم أن الأخير يقود حراكاً غير مسلح.
وعلى الصعيد الداخلي، يواجه الاتحاد الوطني إرثاً ثقيلاً منذ رحيل مؤسسه جلال طالباني، تخللتها صراعات بين الأجنحة وانشقاقات، بما أضعف الحزب على المستويين الكوردي والعراقي. ففي تموز/ يوليو 2021، أقدم بافل طالباني على خطوة حاسمة بإقصاء ابن عمه لاهور شيخ جنكي من الرئاسة المشتركة للحزب، معلناً الاستفراد بالقيادة. لكن هذه الزعامة لم تكن مستقرة؛ إذ بقيت مهددة من قبل قادة سابقين نافذين جرى تهميشهم، واحتمال إعادة تحالفاتهم بدعم من جهات داخلية وخارجية، ما يعرّض قيادة بافل طالباني وشقيقه قوباد طالباني، الذي يشغل منصب نائب رئيس حكومة الإقليم، لهزات متكررة.
ومن الواضح أن استفراد عائلة طالباني بالقيادة لم يكن كافياً لاستعادة قوة الاتحاد، فالسليمانية، وهي المعقل التقليدي للحزب، تُعرف تاريخياً بتمردها السياسي، فيما يترقب الحزب الديمقراطي الكوردستاني أي فرصة لإضعاف منافسه التاريخي عبر استضافة منشقين من الأجهزة الأمنية، أو الإبقاء على حضور لاهور شيخ جنكي في المشهد السياسي عبر دعمه قضائياً واعلامياً، أو احتكار الملفات الحساسة مع بغداد مثل النفط والأمن والعلاقات الخارجية، ليبقى الاتحاد في الهامش عاجزاً عن إعادة التوازن التقليدي في حكم الإقليم.
معادلة الحزبين في الإقليم.. توازن قَلِق
تكشف التحركات الأخيرة للاتحاد الوطني في السليمانية عن مسعى واضح لإعادة فرض الثنائية التاريخية التي حكمت إقليم كوردستان لعقود، خصوصاً مع تراجع الأحزاب التي حاولت كسر هذه المعادلة، مثل حركة التغيير التي شكّلت تهديداً مباشراً للاتحاد في انتخابات عام 2009 وحصلت على 25 مقعداً برلمانياً من أصل 111، وانتهت تقريباً إلى الزوال سياسياً. كما تلاشى حزب التحالف من أجل الديمقراطية بقيادة برهم صالح، الرئيس العراقي السابق والقيادي السابق في الاتحاد، ولم يتمكن من إثبات نفسه على الساحة الانتخابية عام 2018. أما آخر محاولات المعارضة، المتمثلة بحزب الجيل الجديد، فقد تلقت ضربة قوية مع اعتقال شاسوار الذي يهيمن على قيادة الحزب، فيما يفتقر إلى تنظيمات مؤسسية أو خط أيديولوجي واضح أو هوية سياسية مستقرة.
وإن تزايد فرص عودة الثنائية الحزبية في كوردستان العراق لا تقتصر على الإجراءات الأمنية، بل جاءت أيضاً نتيجة تقاطعات سياسية واقتصادية؛ أبرزها سماح الاتحاد الوطني بمرور استثمارات نفطية أمريكية في مناطقه عبر أربيل، وانفتاحه على واشنطن وبعض دول الخليج بعد سنوات من الارتهان لإيران، اذ تشير الأنباء إلى استئجاره شركة للعلاقات العامة لتحسين صورته في واشنطن، فضلاً عن إدراك الحزب الديمقراطي الكوردستاني أن تدهور علاقاته مع بغداد جاء في جزء كبير منه بسبب خصومته مع الاتحاد، وخاصة في ملف الرواتب.
وعلى رغم أن هذه التفاهمات تُرجمت بلقاء على مستوى رفيع بين بافل طالباني وقيادات الحزب الديمقراطي بزعامة مسعود بارزاني، فإن نتائج هذا التقارب على مستوى تشكيل حكومة مشتركة للإقليم لا تزال بعيدة المنال بفعل العوامل الآتية:
1- تمسُّك الحزب الديمقراطي بوزارات ومناصب سيادية (وزارة الداخلية، ووزارة الثروات الطبيعية، ورئاسة جهاز الأمن، ورئاستا الإقليم والحكومة).
2- تعقيدات الحملة الانتخابية العراقية التي تجعل من الصعب على الاتحاد الوطني تليين خطابه تجاه الحزب الديمقراطي دون خسائر شعبية.
3- انتظار ما ستؤول إليه استحقاقات الكورد في بغداد (رئاسة الجمهورية، والوزارات السيادية، ونائب رئيس البرلمان) قبل تقسيم المناصب في الإقليم.
4- ثمة متغير آخر طرأ على السطح بعد اقتحام معقل لاهور شيخ جنكي في السليمانية، إذ أعاد توتير العلاقة بين الأطراف مجدداً إثر محاولة مسرور بارزاني سحب الشرعية القانونية من العملية التي نُفذت تحت عنوان تطبيق القانون. فقد ذكر في بيان لمكتب رئيس حكومة الاقليم أن ما جرى كان مجرد خلاف مسلح بين الاتحاد الوطني وحزب جبهة الشعب للاهور شيخ جنكي، مما أعاد أجواء التوتر الإعلامي بين الجانبين.
والواقع أن المعادلة بين الحزبين الكورديين الرئيسين لا تُحددها العوامل الداخلية وحدها، بل تتأثر بثلاثة ملفات إقليمية متشابكة هي:
- التسوية التركية-الكوردية، فالاتحاد الوطني يأمل في أن تُفضي إلى رفع الحصار المفروض على السليمانية وتطبيع علاقاته مع أنقرة، فيما يسعى الديمقراطي الكوردستاني لاستغلال أي فراغ في قيادة حزب العمال الكوردستاني (PKK) في جبال قنديل لتعزيز نفوذه. ونجاح التسوية بين تركيا وحزب العمال الكوردستاني قد يُعيد رسم خريطة العلاقة مع تركيا، أما فشلها فسيؤدي إلى مزيد من العزلة على الاتحاد مقابل بقاء الديمقراطي في موقع مميز.
- المشهد السوري، حيث يرتبط الاتحاد بعلاقات وثيقة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والأحزاب القريبة من حزب العمال الكوردستاني، في حين يدعم الديمقراطي، القوى الكوردية السورية المناوئة. كما أن أربيل تبني قنوات تواصل مع دمشق عبر التجارة والاستثمار، فيما يميل الاتحاد إلى دعم قسد في خلافها مع النظام السوري الجديد.
- العلاقة مع إيران، إذ يحتفظ الاتحاد بعلاقات تاريخية راسخة مع طهران، بينما تتسم علاقة الديمقراطي بالتوتر والشكوك المتبادلة. والخطاب الإيراني الرسمي غالباً ما يتهم أربيل بإيواء معارضيها، فيما تبقى السليمانية بمنأى عن هذه الاتهامات.
السيناريوهات المحتملة لتسويات الإقليم الداخلية
أمام هذه التعقيدات، تبدو الخيارات المستقبلية في إقليم كوردستان محصورة في ثلاثة سيناريوهات رئيسة:
السيناريو الأول، إعادة تحالف الحزبين الرئيسَين: يتضمن هذا السيناريو استمرار التعاون بين الحزب الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني، وتشكيل حكومة الإقليم وفق الاستحقاقات الانتخابية في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل. وفق هذا الترتيب، يتولى الديمقراطي رئاستَي الإقليم والحكومة، بينما يتولى الاتحاد رئاسة البرلمان ونائب رئاسة الحكومة، إضافة إلى عدد من الوزارات. ومع أن هذا السيناريو يبدو الأكثر قبولاً، إلا أنه يواجه تحديات كبيرة، أبرزها: الدعاية الانتخابية للانتخابات العراقية التي قد تعرقل التفاهمات بين الحزبين، والاختلاف على توزيع المناصب الوزارية والاستراتيجية، خصوصاً الوزارات الحساسة، مثل الداخلية والثروات الطبيعية، وصعوبة التوصل إلى تفاهمات سريعة في ظل تمسُّك الجيل الثاني من قيادات الحزبين بزمام الأمور، مقارنة بعهد الرئيس الراحل جلال طالباني ومسعود بارزاني، ما يزيد من تعقيد إدارة العملية السياسية في ظل سياسة لي الأذرع.
السيناريو الثاني، انقسام الإقليم إلى إدارتين مستقلتين: يشمل هذا السيناريو تمسُّك كل طرف برؤيته ومطالبه، ما قد يؤدي إلى انقسام الإقليم فعلياً إلى قسمين مستقلين سياسياً وإدارياً. يواجه هذا السيناريو تحديات قانونية ودستورية، أبرزها: وجود فيتو غربي مُرجح يمنع حدوث انقسام كامل للإقليم، لتجنُّب خلق سلطتين يمكن أن تخضعا لنفوذ مباشر من تركيا وإيران، ومحدودية الموارد في السليمانية حيث لا تكفي لإدارة الإقليم بمفردها، خصوصاً مع تمركز بوابات تسويق النفط الرئيسة في أربيل ودهوك.
السيناريو الثالث، استمرار التقارب الهش المشوب بالحذر: يُعد هذا السيناريو الأكثر ترجيحاً، ويقوم على استمرار التعاون الهش بين الحزبين لحين الانتهاء من الانتخابات العراقية المقررة في نوفمبر 2025، تليها مرحلة التوافق على تقاسم المناصب والاستحقاقات الانتخابية. وخلال هذه الفترة، سيسعى كل طرف إلى تعزيز قوته السياسية ومركزه في الإقليم، وإدارة المناوشات الانتخابية والسياسية بحذر لتجنُّب الانزلاق إلى صدامات عنيفة، والتكيُّف مع المستجدات الإقليمية مثل احتمالات اندلاع جولة ثانية من الحرب الإسرائيلية-الإيرانية، ومسار التسوية التركية-الكوردية، ونتائج الانتخابات العراقية، التي ستؤثر مباشرة في توازن القوى الداخلي.
No Comment! Be the first one.